"كلام على شفير الميتافيزيقا" لوليد الخوري: حفر دقيق في أصالة "العقلنة" بالخطاب التراثي - شوف 360 الإخباري

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"كلام على شفير الميتافيزيقا" لوليد الخوري: حفر دقيق في أصالة "العقلنة" بالخطاب التراثي - شوف 360 الإخباري, اليوم الأحد 18 مايو 2025 11:10 صباحاً

الدكتور محمد علي العريبي

يضعنا الدكتور وليد كميل الخوري في كتابه الجديد الصادر عن مركز دراسات فلسفة الدين – بغداد، ودار التنوير (لبنان)، بعنوان "كلام على شفير الميتافيزيقا" في مواجهة مباشرة مع جملة من القضايا التي شغلت حيزاً أساسياً وواسعاً في الفكر الفلسفي العربي والإسلامي والغربي والمسيحي. ففي البدء كان الكلمة والكلمة استحالت إلى كل ما في الأعيان وانتظمت في الأدهان مفاهيم وشبكة معرفيات متجاوزة للطبيعي إلى ما هو فوقه الذي اعتدنا على تسميته "ما ورائي" أو "ميتافيزيقي" متأرجح بين القبول والتسليم لوضوحه ونقائه أو إنكاره ورفضه جملة وتفصيلا. وبين القبول والرفض درب أو صراط رفيع يفصل بين بر أمان أو لجة ندم سحيقة. واختار الدكتور وليد الخوري اسم الشفير حيث  تتزاحم على ضفاف تاريخ الفكر البشري، المديد، سيول المذاهب والتيارات والملل: الناجية الراسخة في العلم أو الساقطة الخاسرة الضالة. وسبق للإمام الغزالي أن شبه الحالة هذه بـ"بحر عميق غرق فيه الأكثرون وما نجا منه إلا الأقلون" (الغزالي: المنقذ من الضلال).

شفير الميتافيزيقا مع الدكتور وليد الخوري مختلف عن المعهود في المباحث الفلسفية: في ذات الله الواحد الأوحد، وملكوته، وفيض العقول عنه، وقدم العالم أو حدوثه ومخلوقاته النباتية والحيوانية، ونجوم وكواكب سماواته، والإنسان وقواه الغذائية والجنسية والحسية والعقلية. إنه إحاطة بخطاب نقدي في أركان الثقافة العربية والإسلامية المزروع "في تربة مالحة" تجلت في الموقف من المعتزلة، في ركونهم إلى أصالة العقل وحرية التفكير، وتتبع رصين لمسار الفكر العربي مع الأشعرية والمذاهب التي قبحت الفلسفة وأهلها ورميهم بالبدعة والكفر. ونظر ثاقب في فكر النهضويين وغربة الخطاب النقدي وأسبابها.

مفتاح الإشكالية المحورية التي ترعرعت وعايشت الفكر العربي والإسلامي في حقباته المتتابعة يلخصها الدكتور وليد في تعليقه على مناظرة جرت بين السيرافي (لغوي - نحوي) ومتى (فيلسوف- منطقي، ومترجم) في مجلس الوزير الفضل ابن جعفر ابن الفرات (326 هج)، بين أصيل ودخيل. أصالة مشبعة بحرارة الحضارة العربية والإسلامية وما تحمله من امتيازات معنوية وأخلاقية وما أثارته الدخالة من " مشاعر التشكيك عبرت عنها المواقف المكفرة والمبدعة للفلاسفة الذين رأوا إلى الآخر اليوناني، في ما أنتجه في علوم الفلسفة والمنطق، إنجازاً معرفياً، يثري الحضارة الإنسانية الجامعة. الانطباع الذي ولدته المناظرة عند الحضور والحاكم الحكم أن كلام السيرافي "مبيض الوجوه .. طراز خالد لا يبليه الزمن .. وعليه، لقد انتهت المناظرة إلى نتيجة تعلي من شأن اللغة على حساب المنطق، وترفع الأصيل والموروث وتحط من قدر الوافد الدخيل" ويخلص المؤلف أي نتيجة مفادها أن هناك "فجوة عميقة تفصل بين علمين (النحو والمنطق) عززت تطوراً على شفير مرجعيتين (العقل والنص) تختلفان عند الأفق الميتافيزيقي لكل منهما”.

ويرى صديقنا أن إشكاليات هذه المناظرة بطرفيها لم تغب عن الخطاب العربي المعاصر، ويورد أسماء المناصرين كالجابري الذي ناصر متى، ودفاع طه عبد الرحمن عن السيرافي. وفي مطلق الأحوال يعتبر سياق المناظرة والظروف التي أحاطت بها "شوهت معنى الحوار" وظهرت تداعياته في مواقف الغزالي وابن تيمية والأفغاني ومحمد عبده وغيرهم من النهضويين والمعاصرين. 
ويتطرق الكتاب إلى قضية بالغة الأهمية وهي معنى المعنى في ميادين العلوم التي نمت على هامش القرآن، وبشكل خاص في علوم اللغة وعلم أصول الفقه، لجهة أن هذا النوع من النظر "أملته الوقائع والمستجدات التي فرضها ويفرضها صخب الحياة وتجارب المجتمعات وحراكها اليومي الضاغط" وهذا مبحث موغل في التركيب الذهني عند المفكرين العرب والمسلمين على حد سواء.

 

kaidi
غلاف الكتاب.

غلاف الكتاب.

 

وتضمن الكتاب قراءات نقدية لمنهجيتي الغزالي وابن رشد في كتاب "مختصر المستصفى" لابن رشد. ويكشف الدكتور وليد عن معالم سمات العقلانية المتوسطية (التي سادت على ضفاف البحر المتوسط) عند طه حسين الداعية إلى أصالة العقل وحرية الإنسان في اختيار أفعاله (بدأت مع المعتزلة) والنسج على نول ارسطو في التفلسف، والضرب على أوتار الحداثة الثلاثة الذهبية : الحرية والديمقراطية  والعقلانية. ويختم بإطلاق صرخة الأرض المدوية بسبب تغييب العقلانية والتحامل الصارخ على الحرية.

وأزمة الفكر العربي مستمرة وإن تعددت المناهج التفكيكية الحديثة للنص التراثي، والقرآني بشكل خاص، بصنفيها: تلك التي تعمل على إعادة تركيب الحقل الدلالي للنص القرآني بما يتوافق مع شروط التفكير الحديث والمعاصر، وتلك التي ترى أن هكذا فعل يخلخل مبنيات العقيدة الدينية بضرب الثوابت في بنيتها وتجريدها من صفة القداسة المتأتية من أصلها الإلهي. ويستعرض المؤلف جملة من المناهج، كتفكيكية جاك داريدا، والألسنة السوسورية وشكلية اللغة، ليقول بأن التفكيك "لعب بالنار" . وغير خاف على أحد أن محنة الاختلاف مستمرة في طيات التاريخ العربي حيث "يتماهى فيه الديني والزمني، وتحركه، في كل الاتجاهات، لعبة القبض على المعنى من أجل الفوز بالجنتين : السلطة في الدنيا، والجنة في الآخرة"، وهي محنة تسقط كل محاولات الإبداع والترقي.

ويستعرض المؤلف في حنايا كتابه أعمال ثلة من المفكرين المعاصرين والمتقدمين تحت عناوين ملفتة كالغزالي واللعب في حديقة الاسم المشترك، وتجربة كمال يوسف الحاج وفلسفته الملتزمة، والعقلانية الرشدية في ميزان الفكر المعاصر، ومسلك رفع التضليل والحيرة عن العقيدة بين ابن رشد وابن ميمون، والحقيقة المغيبة في نهضوية فرح انطون، وبسط السؤال على ساحة المعنى : صيغ ومنازل، والتأثيلية والتعبيرية: مسلكان منهجيان لوضع المصطلح الفلسفي العربي المنقول.
هذا مع حفر دقيق في أصالة "العقلنة" في الخطاب التراثي، وتحديد تمايز المفاهيم المتعلقة بالعقلنة والعقلانية والتبرير العقلاني. من ذلك أن العقلنة تختلف عن العقلانية في كون "العقلانية تقدم رؤية للعالم تترجم الكلي بين ما هو عقلي فيه، أي التناسق والنظام وواقع الكون نفسه، ولعل في هذا المفهوم للعقلانية ما يؤول بها في رؤيتها للواقع، إلى إقصاء اللامعقول فيه، أو ما ليس ذا طابع عقلي”. وعليه يمكن أن تكون الأفعال الإنسانية لمجتمع ما عقلانية في مبادئها ونظام علاقاتها، وفي ذلك ابتعاد عن "التبرير العقلاني الذي يبني رؤية كليّة للكون ، انطلاقاً من واقعة جزئية، أو عامل واحد، مع تهميش وتغييب ما قد يكون من أسباب ووقائع أخرى. وعلى ضوء هذه الاختلافات يتعقب المؤلف العقلنة في مسارها التراثي.

ولا يخفى أن ازدحام الكلام على شفير الميتافيزيقا تجمع شتات منازله عروة السؤال الملازمة لكل فعل تفلسف، جديده وقديمه. وما من إجابة إلا وتحف بها سيول النقد، في تعدديتها واختلافاتها. والطامة الكبرى معاناة حضورها في الثقافة العربية المهيمنة، إذ رموزها مهمشون مضطهدون ، وملاحقون لأنهم متهمون من "أهل الجمود" بخلخلة الأصيل وإحداث الاضطراب في العقيدة وعلومها بأدوات معرفية دخيلة، وزحزحة التقليد بمعرفيات الحداثة وقيمها. وهكذا يبقى العقل العربي "معتقلا" في زنزانة الخوف والتردد، ليس له إلا اجترار ماضيه الذي سطعت أنواره في لحظات مضيئة من لحظات حريته التي رميت في سلة تاريخه.

 

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق