نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
"الكيماوي" يكشف الحقيقة - شوف 360 الإخباري, اليوم الأربعاء 28 مايو 2025 11:10 مساءً
حين أعلنت وزارة الخارجية الأميركية فرض عقوبات على الجيش السوداني، بعد ثبوت استخدامه أسلحة كيمياوية ضد مواطنيه، لم يكن الأمر مجرد خطوة قانونية أو إجراء ديبلوماسي، بل لحظة انكشاف حقيقيّ. فقد سقطت ورقة التوت الأخيرة عن سلطة بورتسودان، وانكشف وجه النظام العسكريّ الذي ظلّ يراوغ ويتلاعب بمصير شعب كامل منذ انقلابه على حكومة عبدالله حمدوك "المدنية" في تشرين الأول / أكتوبر 2021.
أتى الإعلان الأميركي بعد تحقيقات دقيقة، جمعت فيها واشنطن أدلة عديدة، بما فيها مقاطع فيديو موثقة من عناصر الجيش بأنفسهم، والتي استند إليها كذلك تقرير صحيفة "نيويورك تايمز"، بالإضافة إلى صور وشهادات ناجين، وتزايد حالات الإجهاض وتفشّي الأمراض، وتغيّر لون المياه، وبقايا الجثامين البشرية والحيوانيّة. جميع ما تقدّم أكّد تورّط الجيش باستخدام أسلحة محظورة دولياً، ليس فقط ضد خصمه العسكري "قوات الدعم السريع"، بل أيضاً ضد المدنيين في ما تُسمّى بـ"الحواضن القبلية"، وفي استهداف لم يكن وليد لحظة عسكرية، بل جزءاً من منظومة عنف وإفلات من العقاب، تمتدّ جذورها إلى عقلية إيديولوجية لا تؤمن بالمدنية، ولا ترى في الدولة الوطنية سوى تهديد.
من يظن أن إزاحة الرئيس السابق عمر البشير في 2019 كانت نهاية منظومة الإنقاذ، فهو واهم. فما جرى في الواقع هو إعادة تدوير للسلطة ذاتها، بالعقيدة الإخوانية نفسها وبالأدوات ذاتها، ولكن بوجوه جديدة. سلطة بورتسودان اليوم لا تختلف في بنيتها العميقة عن نظام البشير، وهي استمرار لشبكة الأمن العقائديّ التي بناها تنظيم "الإخوان المسلمين" بقيادة حسن الترابي، منذ انقلابهم في 1989، وعلى ضوئه تولّى البشير السلطة.
لقد تمكنت هذه الشبكة من البقاء في داخل مفاصل الجيش والدولة، واستثمرت الحرب في السودان كفرصة لإعادة فرض نفوذها، مستخدمة أدواتها الإعلامية لتضليل الداخل، ومحاولة شيطنة أيّ دعوة للحوار أو الانتقال المدني.
ويبدو أن القرار الأميركي وضع جمود المفاوضات في عين الاعتبار، فلقد استمرّ الجيش السوداني في تعنّته ومناوراته للهرب من المنصات الإقليمية والدولية للسلام مثل جدة وجنيف، بما فيها "الإيغاد" على الصعيد الأفريقي، مما يعكس بوضوح نفاد صبر واشنطن من سلطة باتت تتجاهل كلّ منابر التفاوض، وتصرّ على الحسم العسكري في حرب لن تنتصر فيها أيّ قوة.
kaidiوكأن رسالة إدارة ترامب لسلطة بورتسودان هي أن لا شرعية دولية لسلطة ترتكب جرائم حرب، وترفض الحلول السياسية، وتغذّي الانقسامات الأهلية. والعقوبات الأميركية ليست نهاية الضغط، بل بدايته. ومن زاوية أخرى، فإن الاستمرار في مسار نظام البرهان لن يجلب سوى مزيد من العزلة والعقوبات، ولا يزال أمامه فرصة لتدارك الموقف والعودة إلى طاولة التفاوض، والقبول بحلول سياسية تحفظ ما تبقى من الدولة، ويمهّد لمرحلة جديدة من السلام يعود بها العسكر من طرفي الصراع إلى الثكنات؛ أما الإصرار على الحرب فهو مغامرة خاسرة يدفع ثمنها الشعب السودانيّ وحده.
وبرز الدور الإماراتي باعتداله وإنسانيته، وبعده عن الاصطفافات العسكرية. فمنذ بداية الحرب، لم تتغيّر السياسة الإماراتية، من دعوات متكرّرة لوقف القتال، ومساعدات إنسانية ضخمة، ودعم لجهود الوساطة، مع تأكيد دائم على ضرورة تشكيل قيادة مدنية مستقلّة تعبّر عن الشعب السوداني، لا عن تيارات إيديولوجية أو عسكرية.
وكما عبّر معالي الدكتور أنور قرقاش بوضوح: "لا حلّ إلا بوقف فوري للحرب، ومسار سياسيّ يُفضي إلى حكومة مدنيّة مستقلّة"، في مقاربة إماراتية عقلانيّة تركّز على إنقاذ السودان من دوامة العنف، وتدعو لحلّ سياسي لا ينحاز إلى طرف، بل ينحاز لمستقبل السودان واستقرار المنطقة.
لقد كُتب على الأسلحة المحرّمة أن تكشف ما لا تقوله البيانات العسكرية؛ فلا شرعية لحكم يرشّ الموت على شعبه، ولا غطاء لأيّ سلطة تستند إلى الإيديولوجيا والعنف. ما كشفه السلاح الكيمياوي هو حقيقة أن السودان لا يُحكم من قِبل مؤسسة وطنية، بل من قبل بقايا منظومة إخوانية تعيد إنتاج الخراب تحت عباءة الوطنية. وطريق الإنقاذ الحقيقي يبدأ بتفكيك الإرث الاخواني، والعودة إلى مشروع وطني جامع، تتقدّمه قوى مدنية مستقلّة، ويعيد للسودان صورته كدولة قابلة للحياة.
0 تعليق