سردية فقدان الحكمة في عصر الذكاء الاصطناعي... من الذي قتل التأمل؟ - شوف 360 الإخباري

النشرة (لبنان) 0 تعليق ارسل طباعة تبليغ حذف

نعرض لكم زوارنا أهم وأحدث الأخبار فى المقال الاتي:
سردية فقدان الحكمة في عصر الذكاء الاصطناعي... من الذي قتل التأمل؟ - شوف 360 الإخباري, اليوم الأربعاء 28 مايو 2025 11:10 مساءً

هل جرّبت أن تطرح سؤالاً، ثم تجد الإجابة أمامك قبل أن تنهي حتى صياغته؟ ليس سحراً، بل مجرد خوارزمية سريعة، تدّعي المعرفة وتمنحك شعوراً مريحاً بالاطمئنان. لكن خلف هذا "الاطمئنان الرقمي"، هناك شيء يُفلت منّا، شيء كان يحتاج إلى صمت، إلى زمن، وربما إلى ضياع بسيط في الطريق كي يولد: الحكمة.

منذ متى توقفنا عن التأمّل؟ عن الاستسلام لحيرة السؤال من دون أن نسارع إلى البحث عن "أفضل إجابة"؟ لست ضد المعرفة، ولا أرى الذكاء الاصطناعي خصماً مباشراً. لكنني أرى، بوضوح مؤلم، كيف تغيّرت علاقتنا مع التفكير نفسه. لم نعد نصبر. لم نعد نتحمّل. نريد الإجابات لا الأسئلة، النتائج لا العمليات، الحلول لا التجربة.

في العيادات النفسية، أسمع هذا التحوّل يتكلّم بلسان الناس: "أريد أن أتغيّر، الآن"، "أريد أن أفهم مشاعري، بسرعة". كأن العمق يمكن تسليمه عبر رابط مختصر أو تطبيق ذكي. لكن التغيير الحقيقي لا يعرف السرعة، ولا يحبها. إنه يتشكّل ببطء، من خلال الحيرة، والانكسار، والصمت.

المعرفة السريعة تمنحنا شعوراً بالتحكم، لكنها في المقابل تقتل فينا لحظة الضعف التي نحتاجها كي ننضج. ذلك الضعف الإنساني، القابل للكسر، هو ما يفتح الباب للحكمة. أما الإجابات السريعة، فهي تغلق هذا الباب بلطف، وبواجهة مبهرة.

الغريب أن الذكاء الاصطناعي يُعيد صوغ حقيقة قديمة: الذكاء ليس شيئاً نملكه، بل شيئاً نشاركه. هو ليس آلة في داخل الدماغ، بل مسار نمرّ به، ونتعثّر فيه. الذكاء الحقيقي يعيش في الزمن، في التراكم، في الشعور، في الشكّ.

 

صورة تعبيرية

صورة تعبيرية

 

kaidi

لكن المشكلة ليست في الآلة، بل في ما نفعله بها. حين تتحوّل الخوارزميات إلى مرايا تكرّر لنا ما نحبّ، وما نعتقد، وما نشعر به، فإنها تسجننا في نسخة مكرّرة من أنفسنا. لا مفاجآت، لا اختلاف، لا جديد. إعادة تدوير لما هو مألوف فقط.

وفي هذه الحلقة المغلقة، تصبح الحرية صعبة، لأن الحرية ليست القدرة على الاختيار من بين الخيارات، بل القدرة على تخيّل خيارات لم تُعرض عليك أصلًا.

هنا تأتي الفلسفة لا كترف أكاديمي، بل كصرخة وجود. الفلسفة توقظنا من الخوارزمية، تدعونا لنعيش مع الأسئلة، لا للهرب منها. تشجّعنا على الشكّ، لا اليقين. الفلسفة تُربك، لكنّها تحرّر.

بل إنني أعتقد أن العلاج النفسي الحقيقي ليس إلا ضرباً من الشعر، وممارسة فلسفية في جوهرها: لقاء بين ذاتين تجرؤان على قول ما لا يُقال، وتسمحان لما هو غير مألوف بأن يظهر، لا ليُحلّ، بل ليُحتضن.

ما نحتاجه اليوم ليس مزيداً من الإجابات، بل فسحة نترك فيها السؤال يكبر. الزمن الذي تحتاجه الفكرة كي تنضج في الظلام. ذلك "اللاشيء" الذي نخشاه، لكنه وحده القادر على تحريك شيء فينا.

أتأمل طلابي أحياناً، وأرى كيف صار الشك عبئاً عليهم، لا حافزاً. اعتادوا على أن كل شيء يجب أن يكون له حلّ فوري. لكن ماذا عن الأسئلة التي لا جواب لها؟ ماذا عن ذلك القلق الجميل الذي يدفعنا إلى البحث، إلى التجربة، إلى الخلق؟

الفلسفة لا تعدنا بالراحة، بل تطلب منّا أن نتحمل الغموض. تطلب منّا أن نحب، لا لأن الحب عقلاني أو مضمون، بل لأنه فعل حر. وكما كتبت سيمون دي بوفوار: "الحرية هي المصدر الذي ينبع منه كل معنى وكل قيمة". الأحرار فقط يمكنهم أن يحبّوا. الأحرار فقط يمكنهم أن يقاوموا التوجيهات الجاهزة التي تُملِيها علينا الأنظمة الذكية.

لا أهاجم التكنولوجيا، بل أدعو إلى التوازن. دعونا نتذكّر أن ما يجعلنا بشراً ليست السرعة، ولا الكفاءة، بل القدرة على الخطأ، على الشك، على أن نعيد خلق أنفسنا.
وإن نسينا هذا، فإننا نخاطر بأن نصبح آلات أخرى، تردّد ما يُقال لها، وتظن أنها تعرف، بينما هي فقط... تُكرر.

إخترنا لك

أخبار ذات صلة

0 تعليق